فصل: الباب الثالث: في فساد العقد من جهة نهي الشارع عنه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.الباب الثالث: في فساد العقد من جهة نهي الشارع عنه:

وعندنا أن مطلق النهي عن العقد يدل على فساده، إلا أن يقوم دليل. هكذا حكى القاضي أبو محمد عن أهل المذهب.
فمن العقود المنهي عنها:

.بيع الحيوان باللحم.

ومحمله عندنا عن الجنس الواحد من مأكول اللحم.
قال ابن القاسم: ولم أر عند مالك تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الحيوان باللحم إلا من صنف واحد لموضع الفضل والمزابنة، وهو عام في كل حي.
وخصصه الشيخ أبو بكر والقاضيان أبو الحسن وأبو محمد بالحي الذي لا يراد إلا للذبح.
واختلف فيما لا تطول حياته ولا تدخر لمنفعة فيه إلا اللحم هل هو كالذي يقتني لمنفعة التفاتاً إلى وجود الحياة وتعلقاً بظاهر الحديث أو كاللحم؟ والأول قول أشهب، والثاني قول ابن القاسم، وهو يأخذ بالأحوط، فيجعله مع الحي كاللحم، ومع اللحم يلتفت إلى حياته،
وهو نظر إلى تقدير المنع على تفصيل الأوجه وهو أصله في تقدير التهم فمتى أمكن توجهها حكم بها.
قال بعض المتأخرين: والقولان مرويان.
وإذا فرعنا على قول ابن القاسم، فكان الحيوان مما لا منفعة فيه إلا اللحم إلا أنه تطول حياته، فهل يلحق بما لا تطول حياته مما لا منفعة فيه سوى اللحم أم لا؟ قولان.
وأما ما تطول حياته من الوحشي فهو كالإنسي في ذلك.
وقال ابن حبيب: هو كالذي لا تطول حياته، ولو كانت المنفعة المستفادة من الحيوان يسيرة كالصوف في الكبش الخصي، فقال ابن القاسم مرة: هو كالحي. وجعله مرة كاللحم وروى في العتبية في التيس الخصي إن كان لا منفعة فيه ناجزة ولا منتظرة، فهو مثل ما ذكرنا. يريد في المنع.
قال: وأرى أن يجوز، لأن العرب ترغب فيه لشعره، وغيرهم لزقه. ويتنزل على الخلاف فيما لا تطول حياته الخلاف في بيعه بغير جنسه أو الطعام نسيئة.
فرع:
اختلف في اللحم المطبوخ هل هو مخالف في الحكم للنبي لدخول الصنعة فيه، فصار كجنس آخر، أو هو جار مجراه في المنع، لعموم الحديث على قولين لابن القاسم وأشهب.
ومن العقود المنهي عنها:

.بيع الطعام قبل قبضه:

وسيأتي حكمه مفصلاًَ إن شاء الله.
ومنها:

.بيع الكالئ بالكالئ:

وهو الدين، بالدين لا خلاف في فساده.
ومنها:

.بيع الغرر:

قال القاضي أبو الوليد: ومعناه ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر.
قال: فهذا الذي لا خلاف في المنع منه. وأما يسير الغرر فإنه لا يؤثر في فساد عقد. بيع لأنه لا يكاد يخلو عقد منه، وإنما يختلف العلماء في فساد أعيان العقود لاختلافهم فيما فيه من الغرر، هل هو في حيز الكثير الذي يمنع الصحة، أو في حيز القليل الذي لا يمنعها؟.
وعبر الإمام أبو عبد الله عن هذا المقصود بأمان ما كان من الغرر نزراً يسيراً غير مقصود، وتدعو الضرورة إلى العفو عنه فلا يؤثر في فساد البيع، ورأى أن هذا هو المتفق عليه، وأن الخلاف بين العلماء في المسائل المشتملة على الغرر راجع إلى هذا الأصل، فمن أجاز قدر أن الغرر فيما يسأل عنه غير مقصود، ومن منع قدر أن الغرر مقصود.
إذا قرر هذا فقد ورد النهي عن بياعات بسبب اشتمالها على الغرر. فمن ذلك: بيع المضامين والملاقيح حبل وحبلة.
وفي الموطأ أن المضامين ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال.
وقال ابن حبيب: المضامين ما في ظهور الفحول، والملاقيح ما في بطون الإناث، ولا يضر اختلاف التفسيرين، فإن البيعين فاسدان.
وأما حبل حبلة، ففي الموطأ أنه كان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها.
وقال ابن حبيب: حبل الحبلة بيع نتاج الناقة، ورواه عن مالك.
فالتفسير الأول يرجع إلى جهالة الأجل، والثاني يرجع إلى أن المبيع ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه. وكذلك المضامين والملاقيح إلا أن وصف الملوكية لا ينتفي عما في البطن إذ ملكه تابع للملك أمه.
ومنه: بيع الملامسة:
وهو أن يلمس الثوب، فيلزمه البيع بلمسه وإن لم يتبينه. ومنه: بيع المنابذة، وهو أن ينبذ ثوبه إلى الآخر، وينبذ الآخر ثوبه إليه، فيجب البيع بذلك. ومنه: بيع الحصاة، وصفته أن تكون بيده حصاة فيقول: إذا سقطت من يدي فقد وجب البيع. وقيل: تكون ثياب عدة، فيقول على أيها سقطت الحصاة فقد تعين.
قال الإمام أبو عبد الله: لو كان المراد إسقاط الحصاة باختياره لكان كبيع خيار إذا قدر في ذلك أجلاً يجوز الخيار إليه. قال: وكذلك إذا أراد إن سقطت الحصاة على ثوب بعينه، فقد عينت ذلك للبيع، وكانت الثياب متساوية، فإن هذا أيضاً كبيع ثوب من ثوبين بخيار البائع، فيكون محمل النهي على غير الصور التي ذكرناها. ومنه بيع عسب الفحل.
ومحل النهي فيه على استئجار الفحل على عقوق الأنثى، وهو فاسد لأنه غير مقدور على تسليمه.
فأما إن استأجره على أن يحمله عليها دفعات معلومة فذلك جائزة، إذ هو أمر معلوم في نفسه ومقدور على تسليمه.
ومنه:

.بيعتان في بيعه:

كقوله: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً أو خمسة عشر إلى أجل، على أنه قد وجب بأحد الثمنين..
ومما نهي عنه من العقود:

.بيع وشرط:

ومحمل النهي فيه على شرط يناقض مقصود العقد أو يعود بغرر في الثمن.
فالأول: كشرط أن لا يبيع ولا يهب، ونحو ذلك من منع التصرف، ويستثنى من هذا شرط تنجيز العتق للسنة الواردة.
والثاني: كشرط السلف من أحد المتابعين، إذا شح مشترطة في اقتضائه ولم يسمح بإسقاطه. فأما إن نزل عنه وأسقطه فالمشهور أنه يمضي. وقيل: يفسخ. قال سحنون: ويمضي إلا أن يقبض السلف ويغيب عليه، فيرد وينقض البيع ويرد السلعة إذ تم الربا.
وسبب الخلاف: في القولين الأولين: هل يعد الممنوع من منفعة السلف موهوباً، فإذا سمع مشترطة بإسقاطه تبين أن ما توهم من ذلك غير صحيح أو يعد معلوماً، فيكونان قد دخلا على الفساد، فيفسخ على كل الأحوال.
فروع: الأول: لو رد السلف بعد القبض فهل يصح البيع برده؟، على القول بأن إسقاطه قبل القبض يصح به البيع أم لا؟ قولان.
وسبب الخلاف: ما تقدم من عد المانع موهوباً، فإذا رد السلف بطل الموهوم، أو عد المانع معلوماً لا سيما أن القبض قد حقق ما كان موهوماً على النظر الآخر.
الفرع الثاني:
إذا فاتت السلعة في الصورة الأولى، وهي ما إذا أسقط السلف قبل القبض، فما الذي يكون فيها؟ هل القيمة مطلقاً، أو بنظر، فإن كان البائع هو المسلف كان فيها الأقل من القيمة أو الثمن، وإن كان المشتري هو السلف كان فيها الأكثر منها.
والتفصيل هو المشهور، فنظر في الشاذ إلى قياس البيع الفاسد، ونظر في المشهور إلى ما وقع التراضي به مع الالتفاف إلى أن البيع ليس بفاسد إذا رضي مشترط السلف بإسقاطه.
الفرع الثالث:
وهو مرتب: إذا قلنا بالتفصيل على المشهور، وكان المسلف هو المشتري، قيل: يكون له الأكثر من القيمة أو الثمن مطلقاً أو يشترط أن لا تزيد القيمة على الثمن وجملة السلف. قولان: والإطلاق هو المشهور، والاشتراط شاذ.
الفرع الرابع:
إذا فاتت السلعة في الصورة الثانية، وهي ما إذا رد السلف بعد قبضه، فأما على القول الشاذ، فلا خفاء بوجود القيمة مطلقاً.
وأما على المشهور قولان:
أحدهما كالشاذ، وهو بناء على أن الفساد قد تحقق بالقبض.
والثاني: وجوبها على التفصيل المتقدم، وهو بناء على القول بأن إسقاط السلف في هذه الصورة يقتضي تمام البيع. هذا محمل النهي.
فأما شرط لا يناقض مقصود العقد ومقتضاه بل هو من مصلحته كشرط الرهن والكفيل والأجل المعلوم والخيار الصحيح، فكل ذلك خارج عن محمل النهي، ويصح البيع مع اشتراطه.
ومنها:

.بيع العربان:

وصفته أن يشتري سلعة بثمن معلوم ويعربن شيئاً على أنه إن رضي كان ذلك العربون من الثمن، وإن كره لم يعد إليه، وهو من أكل المال بالباطل.
ومنها:

.بيع الكلب:

ولا شك في دخول المنهي عن اتخاذه تحت النهي والمنع من بيعه وعدم صحته. فأما المأذون في الانتفاع به فالنص على كراهة بيعه. واختلف الأصحاب في تنزيله على التحريم أو حمله ظاهرة.
وقال القاضي أبو الحسن: يكره بيعه، فإن بيع لم يفسخ.
وقال القاضي أبو بكر: الصحيح عندي جواز بيعه.
ومنها:

.إفراد الأم بالبيع عن ولدها الصغير:

أو إفراده به عنها. واختلف في حد الصغر المانع من التفرقة.
فالمشهور عن مالك وابن القاسم: أنه ما لم يستغن عن أمه، والعلم على ذلك الإثغار، ما لم يعجل.
قال مالك في تفسير الاستغناء: هو أن يستغني عن أمه في طعامه وشرابه وقيامه ومنامه.
وقال ابن حبيب: يفرق بينهما إذا بلغ سبع سنين.
وأشار في كتاب محمد إلى العشر، لأنه علقه بوقت الأدب على الصلاة.
وروى ابن غانم: لا يفرق بينهما قبل البلوغ، لأن التفرقة عنده إذا بلغ الاحتلام.
ونقل عن محمد بن عبد الحكم أنه ذهب إلى أنه لا يفرق بين الأم وولدها طول ما عاشا.
فرعان: الأول: إذا وقع البيع على التفرقة المنهي عنها، فحكى ابن حبيب أن البيع يفسخ ويعاقبان. حكى ذلك مطلقاً من غير تقييد.
وإليه ذهب القاضي أبو محمد فقال: إنه باطل كبيع الخمر والخنزير، ويفسخ ولو رضيا بالجمع بينهما.
واختار محمد إمضاء البيع على كل حال وإزالة سبب النهي بالبيع عليهما، إذا لم يتراضيا بالجمع طوعاً منهما.
وقال ابن القاسم: إن تراضيا بالجمع لم يفسخ، وإن لم يتراضيا فسخ.
وسبب الخلاف: هل النهي لحق الله تعالى فيخرج عليه القول الأول، أو لحق الأم في توليها، أو الولد في فقد رفق أمه على القولين فيهما، فيخرج على ذلك القولان الآخران.
ثم سبب الخلاف بينهما تصور زوال سبب النهي من غير أن يتراضيا بالبيع عليهما، وعدم تصوره شرعاً، إذ يؤول إلى الوقوع في منهي عنه أيضاً، وهو جمع السلعتين لمالكين في عقد واحد.
الفرع الثاني:
إذا كانت الأم بيد مالك وولدها بيد غيره، وعلم أن ذلك عن بيع أو جهل كونه عن بيع أو هبة، فإن الحكم أن يجمع بينهما في ملك واحد، فإن كانا في أيديهما من غير عوض كهبة أو صدقة، أو كان أحدهما بعوض والآخر بغير عوض، فقال مالك: إن جمعاهما في حوز جاز.
وقال في كتاب محمد: يجمعان في ملك أو يباعان.
وقال مطرف وابن الماجشون في كتاب ابن حبيب: إذا كان شملهما واحداً ومسكنهما واحداً كالوالد والولد والزوج والزوجة والإخوة يكون شملهم واحداً ودارهم واحدة فإن الجمع في حوز يكفي. وإن لم يكن شملهما واحداً فلا بد من جمع الأم وولدها في ملك واحد.
ومنها:

.بيع الإنسان على بيع أخيه:

ومحمل النهي فيه على ما إذا ركن البائع إلى المبتاع وقرب اتفاقهما.

.بيع النجش:

وهو أن يزيد في ثمن السلعة، وهو غير راغب فيها ليغر المشتري بالترغيب.
فروع: أحدها: إذا وقع البيع على وجه النجش ففي المدينة من رواية عيسى عن ابن القاسم: إن علم بذلك المبتاع فله أن يرد ما لم يفت، فإن فاتت فله أن يأخذها بقيمتها ما لم تكن أكثر مما ابتاعها به فلا يزاد عليه.
وقال الإمام أبو عبد الله: المشهور من المذهب أنه ليس بمفسوخ، كبيع المصراة.
قال: وحكى القزويني عن مالك: أن البيع مفسوخ للنهي الوارد عن النجش، والنهي يدل على فساد المنهي عنه. قال: وهكذا قال ابن الجهم. قالا ولا اعتبار بكون النهي لمعنى خارج عن معنى البيع كالنكاح في العدة والإحرام.
الفرع الثاني:
قال الإمام أبو عبد الله: ولو كان التغرير بالزيادة من جهة البائع لكان للمشتري مقال في رد البيع، مثل أن يقول البائع للمشتري اشتريت هذه السلعة بمائة، فاغتر المشتري بقوله ثم ثبت بالبينة أو الإقرار أن البائع إنما اشتراها بتسعين.
الفرع الثالث:
ما سئل عن مالك من ثلاثة أشراك في سلعة أرادوا التفاضل فيها، فقال أحدهم لآخر منهم: أخرج منها إذا تقاومناها ليقتدي بك الثالث وتكون بيني وبينك نصفين. فنهى مالك عن هذا، ورأى ذلك تغريراً وتدليساً على الثالث فصار في معنى النجش.
وقال ابن حبيب: لم يأخذ بها أصبغ، ولم يره من النجش؛ وبه أقول، لأن صاحبه لم يرد أن يقتدي بزيادته، وإنما أمسك على الزيادة، ليرخصه على نفسه، وعلى صاحبه، فلا بأس بذلك.

.وبيع الحاضر للبادي:

ويلحق به شراؤه على إحدى الروايتين.
فروع: الأول: هل يتخصص النهي بالبيع للأعراب أهل العمود الذين يجهلون الأسعار أو يجري في كل وارد على مكان، ولو كان من أهل مدينة، روايتان:
الأولى: مذهب الموطأ.
والثاني: رواية محمد، إذ قال: لا يبع مدني لمصري، ولا مصري لمدني.
وحمل الإمام أبو عبد الله هذه الرواية في حق المدني على ما إذا ورد على مدينة وهو جاهل بأسعارها يمكن غبنه، وينتفع أهل المدينة بوروده عليهم كونه في الغالب ربح فيما أتى به، فلم يمنع استرخاصه.
الفرع الثاني:
وهو مرتب: إذا قلنا برواية محمد، فلو أرسل قريب أو صديق بضاعة من بلد آخر لقريبه أو صديقه ليبيعها له ببلده فلا يفعل.
الفرع الثالث:
إذا قدم البدوي المدينة فاستشار الحضري في البيع، فإن مالكاً قال: لا يشار على البادي فأجرى مشورته عليه مجرى بيعه له، لأنها تقوم مقام السمسرة له والنيابة عنه في البيع، وكره أيضاً أن يخبره عن السعر فرأى إخباره بالسعر كالمشورة، والمشورة كالبيع.
قال محمد: هذا فيما أتوا به للبيع.
ومنها: البيع يوم الجمعة بعد النداء الموجب للسعي ممن تلزمهما أو أحدهما الجمعة.
فروع: أحدها: إذا وقع البيت على الوجه المنهي عنه فإنه يفسخ على المشهور.
وفي المجموعة: لا يفسخ.؟
وفي ثمانية أبي زيد عن ابن الماجشون قال: يفسخ في حق من اعتاد ذلك وتكرر منه، ولا يفسخ في حق غيره.
الفرع الثاني:
إذا فات البيع فقال ابن عبدوس: يمضي بالثمن، إذ لا فساد فيه.
وقال ابن القاسم: يمضي بالقيمة لئلا يتم ما دخلا عليه.
الفرع الثالث:
إذا قلنا: يمضي بالقيمة، فهل يقوم بعد انقضاء الصلاة إذ لا قيمة في ذلك الوقت شرعاً، أو يقدر خلو الوقت عن النهي، ثم يقوم؟ فيه قولان: لأشهب وابن القاسم.
ثمرتهما: تعين إحدى القيمتين عند اختلاف الأسواق بين هذين الوقتين.
ومنها:

.تلقي السلع قبل أن تورد الأسواق:

فلا يجوز التلقي.
فإن وقع البيع على وزجه التلقي فروى ابن القاسم: ينهى فإن عاد أدب، ولا ينتزع منه شيء، وهو اختبار أشهب.
وروى ابن وهب: ينتزع منه ما ابتاع، فيبتاع لأهل السوق، فما ربح فهو بينهم والوضيعة على المتلقي.
قال ابن القاسم: أرى أن يشترك فيها التجار وغيرهم ممن يطلب ذلك، ويكون كأحدهم.
وقاله ابن عبد الحكم بالحصص بالثمن الأول.
وقال أصبغ بقول مالك الأول، إن عاد أدب ونفي من السوق. واختار محمد أن يرد شراؤه وترد السلعة على بائعها. وبه قال ابن حبيب. وروى أيضاً يؤدب المتلقى. قال ابن القاسم: إلا أن يعذر بجهل، وكذلك في الحاضر يبيع للبادي.
وقال ابن وهب: يزجر ولم يبلغ به الأدب.
فرع:
اختلفت الروايات في حد التلقي، فروي: الميل، وروي: الفرسخان. وفي الواضحة: لا تتلقى السلع، وإن كانت على مسيرة يوم أو يومين.

.خاتمة لهذا الباب:

يذكر ما يترتب على العقد الفاسد، وما يتصل به من قبض أو فوات.
والمقصود النظر في نقل الضمان، وفي نقل الملك.

.النظر الأول في نقل الضمان:

ولا يحصل بمجرد العقد الفاسد، فإن مكن البائع المبتاع من قبض المبيع فتركه اختياراً، أو نقد المبتاع ثمن للبائع، فقال أشهب: ينتقل الضمان بكل واحد منهما.
وقال ابن القاسم: لا ينتقل إلا بالقبض.
ويتخرج خلافهما على أن تبدل النية مع بقاء اليد هل يؤثر في حكم الضمان أم لا؟ فإن اتصل بالعقد الفاسد القبض انتقل الضمان انتقالاً تقتضيه شبهة الملك لا حقيقته.
وقال سحنون: إن كان البيع مجمعاً على فساده لم ينتقل الملك ولا شبهته ولا يضمنه المبتاع لا ضمان الرهان.
ثم حيث أو جبنا عليه القيمة عند التلف تحت يده، فالمعتبر قيمته يوم القبض لا يوم العقد.
فرع:
لو عثر على العقد قبل الفوت ففسخ بعد أن استغل أو استعمل لم يلزمه عوض عن ذلك إذ الخراج بالضمان.

.النظر الثاني: في نقل الملك.

ولا ينتقل بمجرد العقد. ولا باتصال القبض به على المعروف من المذهب. وذكر محمد بن سلمة أن الفسخ بعد القبض استحسان.
وهذا القول منه يشير إلى أن القياس منع الفسخ بمجرد القبض. ومقتضى هذا أن العقد الفاسد إذا اتصل به القبض نقل الملك. فأما إن تعقب القبض الفوات فإن الملك ينتقل، ويجب المثل في ما له مثل، والقيمة فيما لا مثل له.
ثم النظر في الفوات يتعلق بحكمه وأسبابه.
أما حكمه فنقل الملك كما بينا، وإيجاب المثل أو القيمة. لكن اختلفت الرواية في تعميم هذا الحكم في جميع البياعات الفاسدة ما اتفق على فساده منها. وما اختلف فيه، أو تخصيصه بما كان من الحرام البين، من الربا وغيره. فأما ما كرهه الناس إذا فات فيمضي بالثمن.
والتعميم رواية ابن نافع، والتخصيص رواية ابن القاسم. قال القاضي أبو محمد: والأول أقيس.
وأما أسباب الفوات فأربعة: تغير الذات، وتغير السوق، والخروج عن اليد بالبيع، وتعلق حق آخر بها.
فأما السبب الأول وهو تغير الذات، فهو عامل في جميع أنواع المبيعات الأربعة: العقار، والعروض، والحيوان، وذوات الأمثال: من المكيلات والموزونات والمعدودات.
فيفوت العقار بذهاب عينه واندراسه الذي يقوم مقام ذهاب عينه، إذ يستحيل رد العين بعد تلافها.
وتفوت الدور منه بالهدم والبناء، والأرض بالغرس فيها، وقلعه منها، وحفر الآبار، وشق العيون، وما في معنى ذلك، لكون هذه الأحوال يتحول معه الغرض المقصود من العقار.
وتفوت العروض أيضاً بذهاب عينها وتغيرها في ذاتها، وكذلك الحيوان وذوات الأمثال..
وأما السبب الثاني فهو تغير السوق، فيختص عمله في المشهور بالنوعين المتوسطين: العروض والحيوان. وأعمله ابن وهب في الأنواع الأربعة.
قال الإمام أبو عبد الله: ومقتضى كونه مفيتاً في المكيل والموزون أن تؤخذ عنه القيمة إذا وقع الفسخ. وإنما كان تغير السوق مفيتاً للمعادلة بين المتبايعين لنفي الضرر عنهما، إذ لو قضينا بالرد بعد تغير السوق لخصصنا أحدهما بالضرر، مع اشتراكهما في سبب الفسخ ودخولهما فيه دخولاً واحداً. وبهذا يفارق الرد بالعيب.
وأما السبب الثالث، وهو خروج المبيع عن اليد بالبيع، فهو عامل في أنواع المبيعات بأسرها، فمن اشترى شيئاً منها شراء فاسداً فقبضه ثم باعه بيعاً صحيحاً، فإن بيعه له ينفذ، ويكون فوتاً يمنع من الرد لكون البائع سلم المبيع للمبتاع، وقد أذن له في التصرف فيه، ومن التصرف في بيعه. ولو قدر أن الملك لم ينتقل ولا شبهته لكان ينبغي أن ينفذ هذا العقد الثاني لكون البائع أذن فيه وسلط عليه.
قال الإمام أبو عبد الله: ومقتضى ما تقدم لسحنون في البيع المتفق على فساده من أنه يضمن ضمان الرهان، لا لشبهة الملك فيقتضي أن ينقض هذا البيع الثاني، لأنه عنده كبيع المرتهن، فأما البيع المختلف في فساده لاختلاف طرق الاجتهاد فيه فلا يخالف فيه. هذا حكم البيع بعد القبض.
فأما لو باع ما اشتراه شراء فاسداً قبل قبضه، فقد رأى المتأخرون أن المذهب في نفوذ بيعه له وهو في يد بائعه منه، وكونه قوتاً على قولين.
قالوا: وكذلك عكسه، وهو أن يبيع البائع ما باعه بيعاً فاسداً بعد قبض من اشتراه الشراء الفاسد له، وجعلوا سبب الخلاف كون البيع الفاسد نقل شبهة ملك أم لا؟
وأما السبب الرابع، وهو تعلق حق غير البائع والمبتاع بهذا المبيع بيعاً فاسداً، وذلك كرهن السلعة وإجارتها، وإخدامها إن كانت حيواناً ووقعت الخدمة إلى أجل محدود، حتى تجري مجرى الإجارة في حكم الفوت، فهو عامل أيضاً في الأنواع الأربعة.
هذه الأسباب العامة للفوت. وقد وقع للأصحاب النص على أسباب آخر، بعضها يرجع إلى هذه الأربعة، وبعضها يؤخذ من تعليلها ويقرب منها، فذكرناها لتكمل الفائدة بذكرها.
منها: مجرد طول زمان يمر على الحيوان ولم يتغير في ذاته ولا سوقه، فاختلف فيه هل يكون فوتاً أم لا؟
ورأى الإمام أبو عبد الله أن المعتبر تغير البدن أو السوق. وإنما اعتبر طول الزمن لأنه لا يخلو عنه في العادة وصار الاختلاف في حد الزمن الدال بالعادة على ذلك.
ومنها نقل العروض أو المكيلات والموزونات من بلد إلى بلد لا يتأتى رده منه إليه في غالب العادة إلا بتكلف سفر وإجازة على حملها.
وهذا السبب يقرب من تغيير الأسواق بما يلحق من الغرامة في نقله وفي إعادته، فيقع الضرر على أحدهما لا محالة، ويختص به كما أشير إليه في تغير الأسواق.
ومنها: مجرد وطء الأمة. ففي كتاب محمد أنه فوت، وهو قريب مما قبله، إذ يفتقر إلى إيقافها للاستبراء، ويمنع السيد من التصرف فيها الوطء والبيع، وغيره من وجوه نقل الملك خوف الحمل، فيلحق السيد أعني البائع الأول الضرر لا محالة.
ومبنى هذا الباب على خمسة، كما تقدم.
فرع:
إذا تحقق السبب المفيت للبيع الفاسد، وحكم بموجبه لم يرتفع الحكم بارتفاع السبب ولو حصل السبب فلم ينظر فيه حتى زال، فهل يرتفع حكم الفوت بارتفاع السبب؟
اتفق ابن القاسم وأشهب على أن الفوت إذا كان بحوالة السوق لم يرتفع حكمه بعود السوق الأول. واختلف إذا كان الفوت بالبيع. فرآه أشهب كحوالة السوق. ورأى ابن القاسم أن حكم الفوت يرتفع برجوعه إلى يد بائعه.
قال الإمام أبو عبد الله: وبقية هذا الباب تجري على هذا الخلاف كالعتق والتدبير يرده الغريم، والعيب يزول بعد حدوثه. قال: وكذلك لو أجره أو رهنه ثم أفتكه بالقرب، فإن هذا كله يجري على القولين.

.الباب الرابع: في الفساد من جهة تفريق الصفقة:

وإذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام، وكان الحرام مما لا يقبل البيع كالعقد على سلعة وخمر أو خنزير أو حر ونحو ذلك فالصفقة كلها باطلة.
وقيل: يصح البيع فيما عدا المحرم بقسطه من الثمن. فأما لو باع الرجل ملكه وملك غيره في صفقة واحدة لصح البيع فيهما على المشهور كما تقدم، ولزمه في ملكه، ووقف اللزوم في ملك غيره على إجازته ورده. ثم إن كان ملك الغير وجه الصفقة كأحد العبدين أو الثوبين، وشبه ذلك، ثبت الخيار للمبتاع في أخذ الباقي بقسطه من الثمن أو فسخ البيع فيه، وقد تقدم الحكم الجمع بين عقدين مختلفين في صفقة واحدة، وأن المشهور فساد الصفقة وتتعدد الصفقة بتعدد البائع، وفي تعددها بتعدد المبتاع أو بتعدد المعقود عليه خلاف.
وحيث جرى العقد بوكالة فالاعتماد على الموكل في تعدده واتحاده والله أعلم.

.الباب الخامس: في الفساد من جهة تطرق التهمة إلى المتعاوضين:

بأنهما قصدا إظهار فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز وتذرعاً بشيء جائز في الظاهر إلى باطن ممنوع في الشريعة، حسماً للذرائع وحماية لها.
وقد أجمعت الأمة على جواز كل واحد من البيع والسلف بانفراده، وعلى المنع من جمعهما ولا سبب إلا الحماية. وذلك أن الأغراض لو صحت لأفرد كل واحد منهما. فلما جمعا اتهم المتبايعان أن يقصدا الزيادة في السلف، فإذا كان البائع هو المسلف فكأنه أخذ الثمن في مقابلة السلعة والانتفاع بالسلف. وإذا كان المبتاع هو المسلف فكأنه أخذ السلعة بما دفعه من الثمن وبالانتفاع بالسلف. وهذا إنما اعتبر اتهاماً لا تحقيقاً، فإذا منع الجمع بين جائزين محاذرة من الوقوع في الممنوع أو التطرق إليه فكذلك تحمى الذرائع مما نذكره بعد محاذرة من الوقوع في الممنوع أو التطرق إليه.
إذا ثبت هذا فلا يختلف المذهب في مراعاة ذلك وفسخ العقد إذا كان مما يكثر القصد إليه وتظهر التهمة عليه كبيع وسلف أو سلف حر منفعة، فإن بعدت التهمة بعض البعد وأمكن القصد إليها كشيء تختلف العوائد في القصد إليه، كدفع الأكثر مما فيه الضمان وأخذ أقل منه إلى أجل، فهذا فيه قولان مشهوران.
فأما مع ظهور ما يبرئ من التهمة جملة لكن فيه صورة المتهم عليهم وهو من جنسه، كما لو تصور العين بالعين غير يد بيد، لكن تظهر البراءة من التهمة بتعجيل الأكثر وتأجيل ما هو دونه، فذلك جائز لأن المعول على التهمة وقد فقدت. وقيل: لا يجوز نظراً إلى حماية الباب جملة.
وأصل هذا الباب وهو المعروف عند أهل المذهب ببيوع الآجال اعتبار ما خرج من اليد وما رجع إليها، فإن جاز التعامل عليه مضى وإلا بطل.
فإذا كان المبيع ثوباً مثلاً أو غيره فجعله ملغى كأنه لم يقع فيه عقد أولاً ولا آخراً ولا تبدل فيه الملك، واعتبر ما خرج من اليد خروجاً مستقراً انتقل الملك به، وما عاد إليها وقابل أحدهما بالآخر، فإن وجدت في ذلك وجهاً محرماً لو قرأ بأنهما عقدا عليه لفسخت عقدهما، فأمنع من هذا البيع لما تقدم من وجوب حماية الذريعة. وإن لم تجد أجزت البياعات، ثم تتهم مع إظهار القصد إلى المباح وتمنع إن ظهر القصد إليه حماية أن يتوسلا أو غيرهما إلى الحرام.
وعقد الباب: أن من باع سلعة تعرف بعينها إلى أجل، ثم اشتراها فلا يخلو أن يكون الثمنان من جنس واحد أو من جنسين مختلفين، ولا يخلو أن يكونا عيناً أو طعاماً أو عرضاً.
فإن كانا من جنس واحد وهما عين، فلا يخلو أن يتفق النوعان كما إذا كانا ذهباً أو فضة، أو يختلفا كذهب وفضة. فإن تساويا في النوع فلا يخلو أيضاً من أن يتساويا في الصفة أو يختلفا. وقد حصل من هذا أقسام.
القسم الأول: أن يتفقا في العين والصفة، ويتصور في هذا القسم اثنتا عشرة صورة، وذلك أن الثمن الثاني لا يخلو من أن يكون مساوياً للثمن الأول أو أقل أو أكثر. ولا يخلو من أن يكون البيع الثاني نقداً أو إلى أجل، والأجل إما مساو للأجل الأول، وإما أقل منه وإما أكثر. لكن ثلاث صور منها تدخل في مثلها لتساوي الأحكام، وهي أن يكون البيع إلى اقرب من الأجل، فإنها بمنزلة النقد. ويمنع من هذا القسم صورتان، وتجوز سبع، إحدى الصورتين أن يشتري السلعة نقداً بأقل من الثمن. والثانية أن يشتريها إلى أبعد من الأجل بأكثر من الثمن.
والمحاذرة في الصورتين من سلف جر منفعة بتقدير السلعة لغواً، إلا أن يشترط المقاصة فتجوز الصور التسع لارتفاع التهمة. هذا هو أصل المذهب.
وقال أبو القاسم بن محرز: إذا اشتراها بمثل الثمن أو أقل منه إلى أبعد من الأجل وقد أقامت عند مشتريها ينتفع بها، فقد كان القياس أن لا يجوز ذلك أيضاً لأنه إن اشتراها بمثل الثمن إلى أبعد من الأجل فقد أسلف المشتري مائة في مائة، وازداد ما انتفع به من ركوب السلعة أو استخدامها أو لباسها، وإن اشتراها بأقل من الثمن إلى أبعد من الأجل كان بيعاً وسلفاً، وكان قدر ما يرجع إلى المشتري سلف، وما زاد على ذلك يكون ثمناً للإجارة فيما انتفع بالسلعة وصار بيعاً وسلفاً. وكذلك إن اشتراها بأقل من الثمن إلى أقرب من الأجل لأنه يكون إجارة وسلفاً.
قال أبو القاسم: ولم أر أحداً يذهب إلى هذا، وإنما يعتبرون بصورة الحال عند العقد الثاني، إلا أن أبا الفرج ذكر في كتابه عن عبد الملك بن الماجشون أنه قال: لا يجوز أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل، ثم يشتريها بذلك الثمن أو بأكثر منه إلى أبعد من الأجل. قال أبو القاسم: ولا أعلم له وجهاً إلا ما ذكرت من الانتفاع بالسلعة.
القسم الثاني: أن يختلف نوعا الثمنين كذهب وفضة.
فإن كان البيع الثاني مؤجلاً منع مطلقاً، لأنه تعاقد على صرف بتأخير، وإن كان نقداً فإن كان المنقود أقل من صرف المتأخر منع قولاً واحداً، وإن كان مثله فأكثر فقولان منصوصان: المنع مطلقاً، قاله أشهب، لأنه صرف مستأخر. والمنع إن كان المنقود مثل صرف المتأخر أو مقارباً له، والجواز إن كثر المنقود جداً حتى يسلما من التهمة، وهو مذهب الكتاب.
ومثاله: من باع سلعة بأربعين درهماً إلى شهر، ثم اشتراها بدينارين، وصرف الدينارين أربعون درهماً، إنه لا يجوز. فإنه اشتراها بعشرين ديناراً جاز، لأنهما سلما من التهمة.
واستقرأ أبو الحسن اللخمي قولاً ثالثاً، أنه يجوز وإن كان الشراء بدينارين. قال: وهو أحسن، لأنه يخسر الصبر، ولا يعود إلى يده أكثر مما خرج منها.
القسم الثالث: أن يتساوى نوع الثمن وقدره في العقدين وتختلف عينه بالجودة والدناء، فإن تعجل الأفضل وتأجل الأدنى جاز على مقتضى المعروف من المذهب لبعد التهمة، وإن كان بالعكس منه لأن محصول أمرهما دفع أقل ليأخذ أكثر مع ما يدخله من المبادلة بالتأخير.
وكذلك إن تساوى الأجلان فالمذهب أيضاً المنع، لأن المقاصة ها هنا لا تمكن، وتصير الذمتان مشغولتين بذهبين مختلفين، فهو تعاقد على مبادلة ذهب بخلافه إلى أجل. وكذلك إن كان أجل الثمن الثاني أبعد من أجل الثمن الأول فأحرى بالمنع، لأنه تعاقد على مبادلة بتأخير.
القسم الرابع: أن يكون الثمنان طعاماً، ولا يخلو أيضاً أن يكونا من نوع واحد أو من نوعين. فإن كانا من نوع واحد تصورت فيهما الصور التسع. ومنع منها صورتان وهما: أن يكون البيع الثاني نقداً بأقل من الثمن الأول، أو إلى أبعد من الأجل بأكثر منه. وتجوز خمس صور بلا خلاف: ثلاث منها أن يكون البيع إلى الأجل الأول بمثل الثمن أو أكثر أو أقل، واثنتان: أن يكون البيع بمثل الثمن نقداً أو إلى أبعد من الأجل، ويختلف في الاثنين الباقيتين، وهما أن يكون البيع بأكثر من الثمن نقداً أو بأقل منه إلى أبعد من الأجل.
وإنما سبب الخلاف في هاتين: المحاذرة من الضمان بالجعل هل يقصد في الغالب أم لا؟. وإن كان الطعامان من نوعين مختلفين فحمهما حكم العينين المختلفين.
القسم الخامس: أن يكون الثمنان عروضاً، ولا يخلو أيضاً من أن تكون من جنس واحد أو من جنسين مختلفين. فإن كانت من جنس واحد فإذا تصورت الصور التسع منع منها اثنتان قولاً واحداً وجازت خمس كذلك. واختلف في اثنتين كما تقدم لأن العروض كإطعام في الضمان. وإن كان الثمنان من جنسين فلا خلاف ها هنا في الجواز، إذ لا ربا في العروض.
فروع: الأول: أن يشترطا المقاصة بين الثمنين فلا يبقى للمنع وجه إذ لا يخرج أحد شيئاً يرجع إليه أكثر منه.
الثاني: أن يشترطا في العين عدم المقاصة، فإن كان الثمنان من جنس واحد منع مطلقاً إذا كان البيع الثاني إلى الأجل نفسه، لأنه يقتضي إخراج كل واحد منهما ما في ذمته من الذهب فيكون اشتراط التبادل بذهبين غير يد بيد، فيدخله التأخير إن كانا متساويين، فإن كانا مختلفين دخله التأخير والربا.
الثالث: في تصور اشتراط السلف من كل واحد من المتبايعين، وهو الذي يعبر عنه أهل المذهب بأسلفني وأسلفك. ومثاله أن تكون البيعة الأولى بمائة مثلاً إلى شهر، والثانية بخمسين نقداً وخمسين إلى شهرين. فالمشهور جواز هذا إذا استوى الثمنان في النوع والصفة، إذ لا يخرج أحدهما شيئاً فيرجع إليه أكثر منه.
وقال بالمنع عبد الملك بن الماجشون، وعد مخرج الخمسين مسلفاً لها، يأخذ عنها عند الشهر خمسين بشرط أن يسلفه الآخر خمسين يأخذ عوضها عند تمام الشهر الثاني. وهذا على مراعاة التهم البعيدة، وربما عبر عنه بحماية الحماية أيضاً. هذا مع استواء الثمنين، فأما مع اختلافهما فيمنع عندهما جميعاً.
فلو كانت البيعة الثانية بخمسين نقداً وأربعين إلى الشهر بعينه لمنع عندهما جميعاً، وعند معجل الخمسين مسلفاً لها يأخذ عنها ستين، وتكون أربعين بأربعين. وهذا سلف جر منفعة.
ولو اشتراها بخمسين نقداً وستين إلى الأجل نفسه لجاز عندهما لإخراجه الأكثر وأخذه الأقل.
ولو اشتراها بخمسين نقداً وستين إلى شهرين لمنع باتفاقهما، لأن مخرج المائة عند الشهر دفع خمسين عن خمسين، وأعطى خمسين يأخذ عنها بعد شهر ستين. وكذلك لو اشتراها بخمسين نقداً وأربعين إلى شهرين لمنع عندهما أيضاً، لأن مخرج الخمسين يأخذ عنها ستين عند الشهر، ويدفع أربعين يأخذ عنها عند الشهر مثلها.
الرابع: لو كان المبيع طعاماً أو شبهه مما يكال أو يوزن، ثم استرد بعينه أو مثله صفة ومقداراً، جاز بشرط مراعاة الثمن على ما تقدم. وإن استرد خلافه فهذا بيع حادث. ولو استرد من صنفه لكنهما اختلف في الصفة فالجودة مثل كثرة الكيل، والدناءة مثل قلته، وإن كان من غير صنفه كالشعير أو السلت مع القمح أو المحمولة مع السمراء فحكى أبو محمد عبد الحق عن أشياخه القرويين جوازه مطلقاً، لاختلاف ما بينهما. وإن اتفقا في الصفة واختلفا في المقدار، فإذا تصورت فيها الصور التسع جعلت الزيادة في المردود أو النقص منه بمنزلة الزيادة والنقص منه بمنزلة الزيادة والنقص في الثمن يمنع منه ما تقدم.
وبيانه: أن البيعة الثانية إن كانت بأقل من الثمن نقداً فيمنع أن يكون المردود أقل كيلاً، لأنه يكون رد إليه بعض الطعام، وأخذ بعضه ببعض الثمن، وأخذ المنقود سلفاً، فيصير بيعاً وسلفاً.
فأما إن رد إليه أقل من المكيلة بمثل الثمن، فإن كان إلى أقرب من الأجل أو نقداً فلا تهمة. وإن كان إلى الأجل فقال في الكتاب: في من باع طعاماً بثمن إلى أجل فلما حل أخذ منه أقل من مكيلته بجميع الثمن، لا يعجبني ذلك. وروى عيسى عن ابن القاسم: لا بأس به.
وقال عبد الحق: إنما يعتبر وجهان، أن يشتري بأقل من الثمن، يريد نقداً، فلا يجوز البتة، كان الذي اشترى مثل ما باع أو أقل أو أكثر، أو يشتري أكثر من كيل الطعام فلا يجوز، كان شراؤه بمثل الثمن أو أقل أو أكثر. قال: وما عدا هذين الوجهين فهو جائز.
قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا إنما تكلم به على الشراء نقداً، قال وأما إذا اشترى إلى أبعد من الأجل فتراعى فيه كثرة الثمن أو كثرة الطعام، فلا يجوز لأن أقل من الثمن نقداً بمنزلة أكثر إلى أبعد من الأجل.
الفرع الخامس: لو كان المبيع عروضاً فردها بعينها، فقد تقدم حكمها. ولو كان إنما استرد من المشتري منه خلافها فلا شك في الجواز مطلقاً، ويعد كل واحد من البيعين مستقلاً بنفسه.
وإن كان المردود مثلها فرآها ابن القاسم بمنزلة المختلفة لكون العروض تختلف الأغراض فيها. ورآها ابن المواز بمنزلة العين.
واختلف إذا استرد السلعة بعينها بعد أن تغيرت تغيراً كثيراً، هل هي كسلعة أخرى فيجوز ذلك فيها مطلقاً؟ أو كالعين فيجري على ما تقدم.
ولو باع عبدين بمائة إلى سنة، ثم اشترى منه أحدهما بدينار لم يجز، لأنه باعه ديناراً وعبداً بمائة إلى سنة. وكذلك لو اشترى أحدهما بتسعة وتسعين نقداً ما جاز، ولو كان ما يشتري به على شرط المقاصة لجاز.
ولو باع ثوباً بعشرة إلى شهر، ثم اشتراه منه بخمسة وثوب من نوعه أو من غير نوعه لم يجز، لأن البائع يخرج الآن خمسة عوضاً عن عشرة، يأخذها إذا حل الأجل بخمسة من هذه العشرة التي يأخذها إذا حل الأجل قضاء عن الخمسة التي كانت مع الثوب، والثوب الذي مع الخمسة مبيع بالخمسة الباقية من العشرة.
الفرع السادس: أن يشتري البائع الأول السلعة بوكالة لغيره بأقل من الثمن نقداً، وفيه قولان: قال ابن القاسم: لا يعجبني.
وقال أشهب: يكره ولا يفسخ إذ نزل، وكان على الصحة. وكذلك قال لو اشتراها لولد له صغير. وكذلك قولان لو اشتراها عبد البائع، وكان يتجر لنفسه، المشهور جوازه.
وكرهه أشهب. وإن كان يتجر لسيده لم يجز.
الفرع السابع: إذا وقعت بياعات الآجال على الصفة المنهي عنها، كما إذا اشترى السلعة بأقل من الثمن نقداً أو بأكثر إلى أبعد من الأجل، فإن أدركت السلعة قائمة بيد المشتري الثاني فسخ البيع الثاني قولاً واحداً، ثم يقتصر على فسخه خاصة عند ابن القاسم وسحنون.
وقال ابن الماجشون: تفسخ البيعتان سواء كانت السلعة قائمة أو فائته، إلا أن يصح أنهما لا يتعاملا على العينة، إنما وجدها تباع فابتاعها بأقل من الثمن. فهذا تفسخ فيه البيعة الثانية، وتصح الأولى.
وسبب الخلاف: النظر إلى صحة البيع الأول، وأن الفساد إنما دخل من الثاني، فإذا أبطلناه بقي الأول على الصحة، أو النظر إلى أنا نجعل العقدين كالعقد الواحد، كأنهما إنما دخلا من الأول على الفساد، ويلتفت في هذا إلى مراعاة التهم البعيدة.
وأما إن فاتت السلعة فالمشهور أنهما يفسخان جميعاً.
وقال محمد بن مسلمة: يفسخ البيع الآخر إن كان قائماً، فإن فات مضى بالثمن.
قال الشيخ أبو الطاهر: ولعل هذا مراعاة للخلاف.
وذكر ابن أبي زمنين تفصلاً، فقال: إن تضمن اختصاص الفسخ بالبيعة الثانية حصول الربا، وهو دفع قليل في كثير سرى الفسخ إلى الأولى، وإن لم يتضمن ذلك اختص بالثانية.
قال القاضي أبو الوليد: يعني أنها فاتت بعد أن قبضها المبتاع الثاني، وأما لو هلكت بيد المبتاع الأول، فعندي أن الثاني يبطل خاصة ويثبت الأول. قال: ولم أر فيه نصاً.
وفصل إذا فاتت بيد المبتاع الثاني، فقال: لا يخلو أن يكون الثمنان قبضا أو لم يقبضا أو قبض أحدهما، قال: فإن قبضا وفاتت فعلى قول محمد وابن عبدوس يلزم البائع الأول أن يرد الزيادة. وإن لم يقبضا تتاركا. وإن قبض الأول فقال محمد: يرد المبتاع الأول على البائع الأول الذي قبض منه. ونحو ذكر ابن عبدوس.
قال القاضي أبو الوليد: ولم يذكر معجلاً ولا مؤجلاً قال: ونحو ذلك ذكر ابن عبدوس في المجموعة. قال: والذي عندي أنه يكون معجلاً أو إلى أقرب من أجل الثمن الآخر.
وحكى عن شيوخه الأندلسيين ما ذكره ابن أبي زمنين من التفصيل، وهو أنه إذا باعه ثوباً بعشرة مؤجلة، ثم اشتراه منه بخمسة معجلة، فقبض المبتاع الخمسة، وفات الثوب عند المبتاع الأول فإنك تنظر إلى قيمة الثوب، فإن كانت عشرة فصاعداً غرم البائع الأول للمبتاع الأول تمام القيمة يقاصه منها بالخمسة التي قبض. وإن كانت قيمته أقل من عشرة فسخ البيع الأول والثاني، ورد المبتاع الأول الخمسة التي قبض منه.
قال الشيخ أبو الطاهر: فنظر ابن المواز وابن عبدوس إلى أن موجب الفساد هو العقد الثاني فإذا نقض زال الموجب.
ونظر الأندلسيون إلى أن القيمة متى كانت مثل الثمن الأول فأكثر ضعفت التهمة في أنهما عملا على ذلك فلم يفسخ إلا العقد الثاني.
وإن كانت القيمة أقل من الثمن فسخ البيع الأول أيضاً، لأنه الأصل، فيكون العقدان كالعقد الواحد فيفسخان.
الفرع الثامن: في بيان أحكام بياعات قد عرفت بأهل العينة.
فمنها أن يقول الرجل لأحدهم: اشتر لي هذه السلعة وأربحك فيها، فإن سمى الثمن وأوجب البيع إلى أجل منع، لأن يؤول إلى سلف جر منفعة، وإن كان على النقد، فهل يجوز ويكون له جعل المثل أو يمنع؟ فيه قولان. وإن لم يسم الثمن ولم يوجب البيع كره ولا يفسخ إن نزل، ويكون له جعل المثل.
ومنها أن يشتري من أحدهم سلعة بعشرة نقداً وبعشرة إلى أجل، فيمنع منهم خاصة، ويقدر كأنه اشتراها ليبيع منها بعشرة يدفعها نقداً ويبقى له باقي السلعة يبيعه لينتفع بثمنه معجلاً، ثم يدفع عنه عشرة مؤجلة، والغالب أن السلعة لا تساوي العشرين فيؤول إلى ذهب في أكثر منها.
ومنها أن يكون الإنسان منهما يشتري ليبيع، لا ليأكل، فيبيع منه إنسان طعاماً مثلاً بعشرة إلى أجل، فيقول المشتري: بعته بثمانية، فحط عني من الربح قدر الدينارين، فيمنع إذا كان المقصود البيع، وكانا أو أحدهما من أهل العينة.
قال: لأن أهل العينة يتراضون على ربح العشرة اثني عشرة أو غيره، فإذا باعها فنقص ذلك عن تقديرهما حطه حتى يرجع إلى ما تراوضا عليه. وقد كرهه ابن هرمز.
وبالجملة: فهؤلاء قوم علموا فساد سلف جر منفعة، وما ينخرط في سلكه من الغرر والربا، فتحيلوا على جوازه بأن جعلوا سلعاً حتى تظهر فيها صورة الحل، ومقاصدهم التوصل إلى الحرام، وقد قمنا أن أصلنا حماية الذرائع وسحب أذيال التهم على سائر المتعاملين متى بدت مخايلها، أو خفيت وأمكن القصد إليها من المتعاملين.
وقد قال الأصحاب: إذا كانت البيعتان الأولى منهما إلى أجل، اتهم في ذلك جميع الناس، فإن خرج ذلك إلى شيء من المكروه فلا تجزه.
وإن كانتا نقداً فلا يتهم في الثانية إلا أهل العينة فقط. وكذلك إذا كانت الثانية هي المؤجلة. وقيل: بل يتهم في هذه جميع الناس.
قال أصبغ: وإذا كان أحدهما من أهل العينة فاعمل على أنهما جميعاً من أهلها.
نجز الجزء الأول من كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة تأليف الشيخ الفقيه الإمام العالم جلال الدين وقدوة المهتدين أبي محمد عبد الله بن نجم ابن شاس رضي الله عنه.
يتلوه في أول الثاني، القسم الثاني من الكتاب في لزوم العقد وجوازه، والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
القسم الثاني من الكتاب: